I'rob Al Qur'an

I'rob Al Qur'an


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

الإعراب :

(أعوذ) فعل مضارع مرفوع وهو فعل معتل أجوف لأن عين الفعل واو والأصل أعوذ على وزن أفعل فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت الى العين فصارت أعوذ وهذه علّة ما كان من هذا الباب وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنا. (بالله) : جار ومجرور متعلقان بأعوذ (من الشيطان) جار ومجرور متعلقان بأعوذ أيضا ومن لابتداء الغاية كما أن إلى لمنتهى الغاية فإذا قلت: لزيد من الحائط إلى الحائط فقد بيّنت به طرفي ماله، وإذا قال الرجل: لزيد عليّ من واحد الى عشرة فجائز أن يكون عليه ثمانية إذا أخرجت الحدّين وجائز أن يكون عليه عشرة إذا ادخلت الحدّين معا، وجائز أن يكون عليه تسعة إذا أدخلت حدّا وأخرجت حدّا. (الرجيم) نعت حقيقي للشيطان وجملة الاستعاذة ابتدائية لا محل لها من الإعراب.

سورة الفاتحة مكّيّة وهي سبع آيات


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

الإعراب :

قَالَ تَعَالَى : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1))
الْبَاءُ فِي : بِسْمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْمَحْذُوفُ مُبْتَدَأٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ، أَيْ كَائِنٌ بِاسْمِ اللَّهِ، فَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : الْمَحْذُوفُ فِعْلٌ تَقْدِيرُهُ ابْتَدَأْتُ، أَوْ أَبْدَأُ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنَ الْخَطِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَوْ قُلْتَ لِاسْمِ اللَّهِ بَرَكَةٌ أَوْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، أَثْبَتَّ الْأَلِفَ فِي الْخَطِّ. وَقِيلَ حَذَفُوا الْأَلِفَ، لِأَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى سِمٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي اسْمٍ. وَلُغَاتُهُ خَمْسٌ : سِمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا، اسْمٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا، وَسُمَى مِثْلُ ضُحَى. وَالْأَصْلُ فِي اسْمٍ : سُمُوٌ فَالْمَحْذُوفُ مِنْهُ لَامُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي جَمْعِهِ أَسْمَاءُ وَأَسَامِي وَفِي تَصْغِيرِهِ «سُمَيٌّ» وَبَنَوْا مِنْهُ فَعِيلًا، فَقَالُوا فُلَانٌ سَمِيُّكَ : أَيِ اسْمُهُ كَاسْمِكَ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ سَمَّيْتُ وَأَسْمَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ رَجَعَ الْمَحْذُوفُ إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : أَصْلُهُ وَسَمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى فَاسِدٌ اشْتِقَاقًا. فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أُضِيفَ الِاسْمُ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ هُوَ الِاسْمُ ؟.
قِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْمَ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ غَيْرُ الِاسْمِ، لِأَنَّ الِاسْمَ هُوَ اللَّازِمُ لِلْمُسَمَّى، وَالتَّسْمِيَةُ هُوَ التَّلَفُّظُ بِالِاسْمِ. وَالثَّانِي : أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ بِاسْمِ مُسَمَّى اللَّهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ اسْمًا زِيَادَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَقَوْلُ الْآخَرِ : دَاعٍ يُنَادِيهِ بِاسْمِ الْمَاءِ أَيِ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَنُنَادِيهِ بِالْمَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي اللَّهِ الْإِلَاءُ، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى لَامِ الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ سُكِّنَتْ وَأُدْغِمَتْ فِي اللَّامِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ فُخِّمَتْ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، [وَرُقِّقَتْ إِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ] وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَقِّقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَالتَّفْخِيمُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ خَوَاصِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ : هَمْزَةُ إِلَاهٍ حُذِفَتْ حَذْفًا مِنْ غَيْرِ إِلْقَاءٍ، وَهَمْزَةُ إِلَاهٍ أَصْلٌ، وَهُوَ مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ إِذَا عُبِدَ، فَالْإِلَهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ أَيِ الْمَأْلُوهِ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ. وَقِيلَ أَصْلُ الْهَمْزَةِ وَاوٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَلَهِ، فَالْإِلَهُ تَوَلَّهُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ، أَيْ تَتَحَيَّرُ. وَقِيلَ أَصْلُهُ لَاهُ عَلَى فَعِلَ، وَأَصْلُ الْأَلِفِ يَاءٌ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي مَقْلُوبِهِ لَهِيَ أَبُوكَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) صِفَتَانِ مُشْتَقَّتَانِ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَالرَّحْمَنُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَفِي الرَّحِيمِ مُبَالَغَةٌ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ فَعْلَانًا أَبْلَغُ مِنْ فَعِيلٍ. وَجَرُّهُمَا عَلَى الصِّفَةِ، وَالْعَامِلُ فِي الصِّفَةِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمَوْصُوفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ : الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ كَوْنُهَا تَبَعًا وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، وَرَفْعُهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ.
قَالَ تَعَالَى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3))
الْجُمْهُورُ عَلَى رَفْعِ (الْحَمْدُ) بِالِابْتِدَاءِ. وَ (لِلَّهِ) الْخَبَرُ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَاجِبٌ، أَوْ ثَابِتٌ. وَيُقْرَأُ (الْحَمْدُ) بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَحْمَدُ الْحَمْدَ، وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ، لِأَنَّ فِيهِ عُمُومًا فِي الْمَعْنَى. وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الدَّالِ، إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ، كَمَا قَالُوا : الْمِعِيرَةُ وَرِغِيفٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ فِيهِ إِتْبَاعُ الْإِعْرَابِ الْبِنَاءَ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِلْإِعْرَابِ. وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الدَّالِ وَاللَّامِ عَلَى إِتْبَاعِ اللَّامِ الدَّالَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ لَامَ الْجَرِّ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، مُنْفَصِلٌ عَنِ الدَّالِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ الْمُفْرَدَةِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِهِ فَرَّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الضَّمِّ إِلَى الْكَسْرِ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْحَمْدُ مُنْفَرِدًا عَمًّا بَعْدَهُ. وَالْـ (رَبِّ) مَصْدَرُ رَبَّ يَرُبُّ، ثُمَّ جُعِلَ صِفَةً كَعَدْلٍ وَخَصْمٍ، وَأَصْلُهُ رَابَ. وَجَرُّهُ عَلَى الصِّفَةِ أَوِ الْبَدَلِ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، وَقِيلَ : عَلَى النِّدَاءِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ.
(الْعَالَمِينَ) جَمْعُ تَصْحِيحٍ، وَاحِدَهُ عَالَمٌ، وَالْعَالَمُ : اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ فِي اللَّفْظِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدَ مَنْ خَصَّ الْعَالَمَ بِمَنْ يَعْقِلُ، أَوْ مِنَ الْعَلَامَةِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَفِي (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الْجَرُّ وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ، وَبِكُلٍّ قُرِئَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي رَبٍّ.
قَالَ تَعَالَى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4))
قَوْلُهُ تَعَالَى : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يُقْرَأُ بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ مَنْ عَمُرَ مُلْكُهُ، يُقَالُ مَلِكٌ بَيِّنُ الْمُلْكِ بِالضَّمِّ. وَقُرِئَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ، وَهُوَ مِنْ تَخْفِيفِ الْمَكْسُورِ، مِثْلَ فَخِذٍ وَكَتِفٍ، وَإِضَافَتُهُ عَلَى هَذَا مَحْضَةٌ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ فَيَكُونُ جَرُّهُ عَلَى الصِّفَةِ، أَوِ الْبَدَلِ مِنَ اللَّهِ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ عَلَى هَذَا، وَيُقْرَأُ بِالْأَلِفِ وَالْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا نَكِرَةٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْحَالُ أَوْ الِاسْتِقْبَالُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ مَفْعُولٍ تَقْدِيرُهُ : مَالِكِ أَمْرِ يَوْمِ الدِّينِ، أَوْ مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ الْأَمْرَ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى «يَوْمِ» خَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ تَقْدِيرُ فِي، لِأَنَّهَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَيُقْرَأُ مَالِكَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ حَالًا. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً. وَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَوْ يَكُونَ خَبَرًا لِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ الرَّحْمَنَ، وَيُقْرَأُ مَلِيكُ يَوْمِ الدِّينِ رَفْعًا وَنَصْبًا وَجَرًّا. وَيُقْرَأُ (مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ) عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَيَوْمُ مَفْعُولٌ أَوْ ظَرْفٌ. (وَالدِّينُ) مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ.
قَالَ تَعَالَى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5))
قَوْلُهُ تَعَالَى : (إِيَّاكَ) الْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرَةِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقُرِئَ شَاذًّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً مَسْمُوعَةً. وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ حُذِفَ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ، لِاسْتِثْقَالِ التَّكْرِيرِ فِي حَرْفِ الْعِلَّةِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ : تَنَظَّرْتُ نَصْرًا وَالسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا عَلَيَّ مَعَ الْغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُهُ. وَقَالُوا فِي أَمَّا : أَيْمَا، فَقَلَبُوا الْمِيمَ يَاءً كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ، وَإِيَّا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ اسْمٌ مُضْمَرٌ، فَأَمَّا الْكَافُ فَحَرْفُ خِطَابٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا مَوْضِعَ لَهَا، وَلَا تَكُونُ اسْمًا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ اسْمًا لَكَانَتْ إِيَّا مُضَافَةً إِلَيْهَا، وَالْمُضْمَرَاتُ لَا تُضَافُ، وَعِنْدَ الْخَلِيلِ هِيَ اسْمٌ مُضْمَرٌ أُضِيفَتْ إِيَّا إِلَيْهِ، لِأَنَّ إِيَّا تُشْبِهُ الْمُظْهَرَ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، وَلِطُولِهَا بِكَثْرَةِ حُرُوفِهَا، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ : إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّينَ فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابِّ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : إِيَّاكَ بِكَمَالِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَخْتَلِفُ آخِرُهُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ، فَيُقَالُ إِيَّايَ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ. وَقَالَ قَوْمٌ : الْكَافُ اسْمٌ، وَإِيَّا عِمَادٌ لَهُ وَهُوَ حَرْفٌ وَمَوْضِعُ إِيَّاكَ نَصْبٌ بِـ (نَعْبُدُ). فَإِنْ قِيلَ إِيَّاكَ خِطَابٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، فَكَانَ الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ. قِيلَ : عَادَةُ الْعَرَبِ الرُّجُوعُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ ، وَسَيَمُرُّ بِكَ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارٌ صَالِحٌ فِي الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : (نَسْتَعِينُ) الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ النُّونِ. وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ، وَأَصْلُهُ نَسْتَعْوِنُ، نَسْتَفْعِلُ مِنَ الْعَوْنِ، فَاسْتُثْقِلَتِ الْكَسْرَةُ عَلَى الْوَاوِ، فَنُقِلَتْ إِلَى الْعَيْنِ، ثُمَّ قُلِبَتْ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
قَوْلُهُ تَعَالَى : (اهْدِنَا) لَفْظُهُ أَمْرٌ، وَ الْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَمُعْرَبٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، فَحَذْفُ الْيَاءِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَامَةُ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ بِنَاءٌ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ عَلَامَةُ الْجَزْمِ. وَ (هَدَى) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا تَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ فَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الْأَنْعَامِ : 161] وَجَاءَ مُتَعَدِّيًا بِاللَّامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) [الْأَعْرَافِ : 43]. وَ : (السِّرَاطَ) بِالسِّينِ هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّهُ مِنْ سَرَطَ الشَّيْءَ إِذَا بَلَغَهُ، وَسُمِّيَ الطَّرِيقُ سِرَاطًا لِجَرَيَانِ النَّاسِ فِيهِ كَجَرَيَانِ الشَّيْءِ الْمُبْتَلَعِ. فَمَنْ قَرَأَهُ بِالسِّينِ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَمَنْ قَرَأَهُ بِالصَّادِ قَلَبَ السِّينَ صَادًا، لِتَجَانُسِ الطَّاءِ فِي الْإِطْبَاقِ، وَالسِّينُ تُشَارِكُ الصَّادَ فِي الصَّفِيرِ وَالْهَمْسِ، فَلَمَّا شَارَكَتِ الصَّادَ فِي ذَلِكَ قَرُبَتْ مِنْهَا، فَكَانَتْ مُقَارَبَتُهَا لَهَا مُجَوِّزَةً قَلْبَهَا إِلَيْهَا لِتُجَانِسَ الطَّاءَ فِي الْإِطْبَاقِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالزَّايِ قَلَبَ السِّينَ زَايًا، لِأَنَّ الزَّايَ وَالسِّينَ مِنْ حُرُوفِ الصَّفِيرِ، وَالزَّايُ أَشْبَهُ بِالطَّاءِ، لِأَنَّهُمَا مَجْهُورَتَانِ. وَمَنْ أَشَمَّ الصَّادَ زَايًا قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهَا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِطْبَاقِ. وَأَصْلُ : (الْمُسْتَقِيمَ) مُسْتَقْوِمٌ، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي «نَسْتَعِينُ»، وَمُسْتَفْعِلٌ هُنَا بِمَعْنَى فَعِيلٍ أَيِ السِّرَاطُ الْقَوِيمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقَائِمِ، أَيِ الثَّابِتُ.
وَسِرَاطٌ الثَّانِي بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا مَعْرِفَةٌ. وَ (الَّذِينَ) اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَصِلَتُهُ أَنْعَمْتَ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ. وَالْغَرَضُ مِنْ وَضْعِ «الَّذِي» وَصْفُ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ، لِأَنَّ الْجُمَلَ تُفَسَّرُ بِالنَّكِرَاتِ، وَالنَّكِرَةُ لَا تُوصَفُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الَّذِي زَائِدَتَانِ وَتَعْرِيفُهَا بِالصِّلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَ مَا مَعْرِفَتَانِ وَلَا لَامَ فِيهِمَا فَدَلَّ أَنَّ تَعَرُّفَهُمَا بِالصِّلَةِ وَالْأَصْلُ فِي الَّذِينَ اللَّذِيُونَ، لِأَنَّ وَاحِدَهُ الَّذِي، إِلَّا أَنَّ يَاءَ الْجَمْعِ حَذَفَتْ يَاءَ الْأَصْلِ، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ. وَالَّذِينَ بِالْيَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ، كَمَا جَعَلُوا تَثْنِيَتَهُ بِالْأَلِفِ فِي الرَّفْعِ وَبِالْيَاءِ فِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ. وَفِي الَّذِي خَمْسُ لُغَاتٍ : إِحْدَاهَا : لَذِي بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ غَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ شَاذًّا. وَالثَّانِيَةُ : الَّذِي بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَالثَّالِثَةُ : بِحَذْفِهَا وَإِبْقَاءِ كَسْرَةِ الذَّالِ. وَالرَّابِعَةُ : حَذْفُ الْيَاءِ وَإِسْكَانُ الذَّالِ. وَالْخَامِسَةُ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ.
قَالَ تَعَالَى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
قَوْلُهُ تَعَالَى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) يُقْرَأُ بِالْجَرِّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ. وَالثَّانِي : أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِينِ. فَإِنْ قُلْتَ الَّذِينَ مَعْرِفَةٌ «وَغَيْرُ» لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ، فَفِيهِ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا : أَنَّ «غَيْرَ» إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ، وَكَانَا مَعْرِفَتَيْنِ تَعَرَّفَتْ بِالْإِضَافَةِ، كَقَوْلِكَ عَجِبْتُ مِنَ الْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا، لِأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ، وَالْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ مُتَضَادَّانِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الَّذِينَ قَرِيبٌ مِنَ النَّكِرَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَغَيْرُ الْمَغْضُوبِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِالتَّخْصِيصِ الْحَاصِلِ لَهَا بِالْإِضَافَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِبْهَامٌ مِنْ وَجْهٍ وَاخْتِصَاصٌ مِنْ وَجْهٍ. وَيُقْرَأُ (غَيْرَ) بِالنَّصْبِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْعَمْتَ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ، لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالصِّرَاطُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَنْتَصِبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.
وَ (الْمَغْضُوبِ) مَفْعُولٌ مِنْ غَضِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ «عَلَيْهِمْ». وَالتَّقْدِيرُ : غَيْرُ الْفَرِيقِ الْمَغْضُوبِ، وَلَا ضَمِيرَ فِي الْمَغْضُوبِ، لِقِيَامِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، فَيُقَالُ الْفَرِيقُ الْمَغْضُوبِينَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِذَا عَمِلَ فِيمَا بَعْدَهُ لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ السَّلَامَةِ.
(وَلَا الضَّالِّينَ) : (لَا) زَائِدَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِلتَّوْكِيدِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هِيَ بِمَعْنَى غَيْرَ، كَمَا قَالُوا : جِئْتُ بِلَا شَيْءٍ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهَا حَرْفَ الْجَرِّ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ غَيْرَ. وَأَجَابَ الْبَصْرِيُّونَ عَنْ هَذَا بِأَنْ (لَا) دَخَلَتْ لِلْمَعْنَى، فَتَخَطَّاهَا الْعَامِلُ، كَمَا يَتَخَطَّى الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَرْكِ الْهَمْزِ فِي الضَّالِّينَ، وَقَرَأَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ فِي الْعَرَبِ فِي كُلِّ أَلِفٍ وَقَعَ بَعْدَهَا حَرْفٌ مُشَدَّدٌ، نَحْوَ ضَالٍّ، وَدَابَّةٍ، وَجَانٍّ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَلَبَ الْأَلِفَ هَمْزَةً لِتَصِحَّ حَرَكَتُهَا لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ.
Get Doc here